انقسام أمريكي:
هل تتجه إدارة بايدن إلى الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط؟

انقسام أمريكي:

هل تتجه إدارة بايدن إلى الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط؟



فرضت تطورات عديدة طرأت على الساحة الإقليمية مؤخراً تساؤلات حول إمكانية تراجع الحضور العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة القادمة. فقد تصاعدت قدرة حركة “طالبان” على توسيع نطاق سيطرتها داخل أفغانستان، على نحو انعكس في تصريحات رئيس الأركان الأمريكي الجنرال مارك ميلي، في 22 يوليو الجاري، التي قال فيها أن “حركة طالبان اكتسبت زخماً استراتيجياً في هجماتها في أنحاء أفغانستان، إلا أن انتصارها غير مضمون إطلاقاً”. وبدأت تقارير عديدة في الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية بصدد الاتجاه إلى “إعادة تعريف” حضورها العسكري في العراق، بالتوازي مع الزيارة التي سيقوم بها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى واشنطن في 26 يوليو الجاري.

ومن دون شك، فإن ما يضفي مزيداً من الأهمية على تلك التساؤلات أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي أكد خلال حملته للانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٠ على أنه سيجري تغييرات على السياسة الخارجية التي اتبعها الرئيس السابق دونالد ترامب، اتجه إلى الالتزام بالنهج نفسه في تقليل الانخراط الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وتنفيذ خطط إنهاء الحروب الأمريكية “اللانهائية” في المنطقة عبر سحب القوات الأمريكية من أفغانستان لإنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك من العراق.

وخلال الأشهر الستة الأولى له في البيت الأبيض، اتخذ الرئيس بايدن العديد من القرارات التي من شأنها تقليل الانخراط الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة انتشار القوات الأمريكية بالمنطقة، لتراجع أهميتها بالنسبة للمصالح والأمن القومي الأمريكي مقارنة بمناطق أخرى أضحت أكثر أهمية، وتتقدم أجندة السياسة الخارجية للإدارة الديمقراطية الحالية.  

مؤشرات تمهيدية:

مع تزايد احتمالات تراجع التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بانخراط الأولى في محادثات غير مباشرة مع الثانية في فيينا حول الاتفاق النووي بمشاركة مجموعة “4+1″، أشارت تقارير عديدة إلى خطط أمريكية لتقليص الوجود العسكري في المنطقة، ونقل القوات الأمريكية من المنطقة إلى آسيا، على نحو بدأ فعلاً في أفغانستان، وتتخذ إجراءات لتفعيله في العراق، لاسيما بعد سلسة من الهجمات الصاروخية على القوات الأمريكية هناك من قبل الميلشيات المسلحة. وقد توصلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتفاق مع العراق يقضي بسحب القوات الأمريكية المقاتلة في البلاد لتتحول مهمة واشنطن والتحالف الدولي للحرب ضد “داعش” في العراق إلى تدريب القوات الأمنية العراقية وتقديم الاستشارات لها.

ورغم معارضة اتجاهات عديدة لقرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، لأنه، في رؤيتها، سيُقوِّض المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقدين الماضيين، إلا أن الرئيس بايدن دافع عن قراره بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر القادم، وإن كانت هناك مؤشرات قوية تكشف أن الانسحاب قد يكتمل قبل هذا الموعد، قائلاً أن “العمليات الأمريكية ستنتهي في 31 أغسطس القادم، باستثناء بقاء مئات القوات الأمريكية لحماية الدبلوماسيين الأمريكيين ومطار كابول”.

دوافع مختلفة:

يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة دفعت إدارة بايدن إلى تبني خطط الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط، بشكل عام، ويتمثل أبرزها في:

1- تأييد الرأي العام الأمريكي لسحب القوات من الخارج: تُظهِر استطلاعات الرأى العام الأمريكية تزايد تأييد الأمريكيين لقرار الرئيس بايدن الأخير بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وتقليل الانخراط الأمريكي المباشر في الصراعات والنزاعات الدولية، بعد تزايد تكلفة حربى أفغانستان (٢٠٠١) والعراق (٢٠٠٣) اللتين فرضتا على الولايات المتحدة الأمريكية تكاليف باهظة يرفض الأمريكيون تحملها مجدداً. فقد كشفت نتائج استطلاع الرأى الذي أجرته مجلة “إيكونوميست”، بالتعاون مع مؤسسة “يوجوف” في الفترة من 10 إلى 13 يوليو الجاري، أن 57% من الأمريكيين يوافقون على القرار الذي اتخذه بايدن بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان بشكل نهائي بينما اعترض على القرار 21% فقط من الأمريكيين.

ويؤيد الديمقراطيون والجمهوريون والمستقلون قرار الرئيس الأمريكي بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وهو ما أشارت إليه نتائج الاستطلاع، حيث وافق 72% من الديمقراطيين و58% من المستقلين و43% من الجمهوريين على القرار، في حين قوبل باعتراض 13% من الديمقراطيين و23% من المستقلين و36% من الجمهوريين. 

ويتوافق تأييد الأمريكيين لسياسات الرئيس بايدن بإنهاء الحروب الأمريكية اللانهائية مع اتجاه الناخبين الأمريكيين للتصويت خلال آخر ثلاثة انتخابات رئاسية لصالح المرشح الذي وعد بسياسة خارجية أقل تدخلاً في شئون الدول، وتقليل الانخراط العسكري الأمريكي في الصراعات الخارجية.

2- التركيز على مواجهة التحدي الصيني: تركز إدارة الرئيس بايدن منذ اليوم الأول لها في البيت الأبيض، مثل إدارتى أوباما وترامب، على مواجهة التحدي الذي تشكله الصين للولايات المتحدة الأمريكية. فقد أكدت وثيقة “التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي”- التي تتضمن الخطوط العريضة للرئيس بايدن- على كيفية تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع العالم، وكشفت تصريحات الرئيس بايدن وأعضاء إدارته خلال الأشهر الستة الماضية عن أن واشنطن تنخرط في منافسة قوية من بكين بسبب “تحديها القوة والنفوذ الأمريكي عالمياً، وكذلك تهديدها لحياة ملايين الأمريكيين، التي تتأثر بسياسات بكين الصناعية والتكنولوجية والتجارية”.

3- الاعتماد على الشركاء المحليين: ترى إدارة الرئيس بايدن أنالقضاء على العديد من قيادات الصف الأول من تنظيم “داعش” في كل من العراق وسوريا، يساعد في تقليص مستوى التهديدات التي تفرضها التنظيمات الإرهابية على الصعيد الدولي، بشكل يمكن أن يساهم في تنفيذ خطط الانسحاب العسكري الأمريكي، خاصة أن ذلك يمكن أن يتم بالتوازي مع مشاركة القوات الأمريكية في مهام تدريب القوات المحلية، مثل القوات العراقية، وبعض الميليشيات، على غرار ميليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الكردية السورية، على مواجهة الخلايا التابعة للتنظيم في كلتا الدولتين.

4- عدم نجاح تجارب التدخل العسكري: يرى بعض المراقبين أن التدخل العسكري الأمريكي في المنطقة أنتج في النهاية دولاً فاشلة تفقد السيطرة على حدودها، وهو ما يبدو جلياً في حالة أفغانستان على سبيل المثال، حيث ما زالت حركة “طالبان” تمتلك القدرة على توسيع نطاق نفوذها، وهو ما كشفت عنه تصريحات رئيس الأركان الأمريكي الأخيرة.

تياران متعارضان:

تنقسم الآراء داخل الولايات المتحدة الأمريكية حول اتجاه إدارة الرئيس بايدن إلى تقليص الانخراط في أزمات منطقة الشرق الأوسط، وإنهاء حقبة “الحروب التي لا نهاية لها” بالانسحاب منها، إلى تيارين رئيسيين: الأول، يدعم الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط، ويرى أن المصالح الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تتمثل في منع الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب وهى أهداف لا تحتاج إلى تمركز القوات الأمريكية بأعداد كبيرة ولا تمركز للدفاعات الصاروخية وحاملات الطائرات في المنطقة، ولكن يمكن تحقيقها من خلال العمل الدبلوماسي.

ويذهب أنصار هذا التيار إلى أن الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة أدى إلى نتائج عكسية، ولم يحقق الاستقرار والأمن المنشود من ورائه. بينما قد يعزز التخفيض الحاد للقوات العسكرية الأمريكية في المنطقة الأمن والاستقرار بها، وسيسمح بتحسين الدبلوماسية الأمريكية.

والثاني، يعارض هذا التوجه،ويعتبر أن مغادرة الولايات المتحدة الأمريكية للشرق الأوسط لا تعكس سياسة سليمة، حيث لا تزال لدى واشنطن مصالح مهمة تستحق الحماية في المنطقة، حتى لو كانت التغييرات السياسية والتكنولوجية والاجتماعية قد جعلت تلك المصالح أقل أهمية مما كانت عليه قبل عقود من الزمن، كما يرى هذا التيار أن ذلك سيؤدي إلى تهديد استقرار وأمن المنطقة، وتصاعد نفوذ إيران وتنظيم “داعش”، ما سيدفع الولايات المتحدة الأمريكية للعودة مجدداً للانخراط النشط في المنطقة بتكلفة عسكرية أكبر، وفي ظل ظروف قد تكون أكثر خطورة.

وفي النهاية، يبدو أن هذا الجدل سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة، لاسيما أن التطورات التي تشهدها ملفات إقليمية عديدة، ربما تدفع إلى استمرار ذلك، على غرار غموض المسارات المحتملة لمفاوضات فيينا مع إيران، واستمرار الهجمات ضد المصالح الأمريكية في العراق، وتصاعد نفوذ “طالبان” في أفغانستان.